عظيمة هي الكتب، عظيمة بتفاصيل عديدة. أحد تلك التفاصيل، أن لها سلطة غريبة على نظام التفكير البشري. نحن نمنح الكتب تلك السلطة طوعًا لتأثر على فكرنا ووعينا ولاوعينا، وتصل الجرأة في سلطة الكتاب إلى أن يقحم نفسه في عقلك ليفتح بابًا، ويربط حدثًا روائيًا سابقًا أو شخصية روائية في واقعك الحالي. قد يحدث ذلك مثلًا أثناء قراءة كتاب متعمق ومتخصص في الفلسفة وعلم النفس، لتظهر شخصية روائية، فتُسقط على الرواية (لا نفسك) تلك الأفكار! يا لها من سلطة: أن تفكر في شخصية خيالية وتمنحها الأولوية عوضًا عن ذاتك.. أثناء قراءتي لكتاب “مدخل في العلاج النفسي الوجودي” لكل من “رولو ماي” و”إرفين يالوم” بترجمة الدكتور “عادل مصطفى”، توقفت لوهلة أثناء قراءة النص التالي:
“كل اختيار ينطوي على نبذ. التخلي إذًا هو فعل ملازم للقرار كظله. فكل قرار يُتخذ يستوجب التخلي عن خيارات لأخرى – وهي كثيرًا ما تكون خيارات لن تُتاح بعد ذلك أبدًا”.
“توماس! كونديرا!” صحت قائلًا، حتى أن الصيحة كانت أشبه في نسيجها بصيحة اليوريكا أو لاعبي الـ BINGO.
نرشح لك قراءة: من هو ميلان كونديرا؟
كونديرا وتطبيق على العلاج النفسي الوجودي
يأخذنا مترجم هذا الكتاب دكتور عادل مصطفى -وهو طبيب نفسي من مصر- في مقدمته في عرض سريع وبليغ عن الوجودية المعاصرة. لينتقل بعدها إلى العلاج النفسي من منظور وجودي. يحمّل الفكر الوجودي الإنسانَ كامل المسؤولية عن قرارته وبالتالي عن وضعه الآني، لا يقبل الأعذار ولا يقبل بها كستار لنختبئ خلفه. كل مسؤولٍ حر، فكن حرًا!
يرفض النموذج الوجودي أن يكون الصراع النفسي مدفوعًا كوننا كائنات مدفوعة بالغرائز (النموذج الفرويدي)، أو أنه -أي الصراع النفسي- صنيعة البئية الثقافية المحيطة (الفرويدية الحديثة) بل على العكس من ذلك، فالصراع الأساسي يكمن بين الفرد وبين معطيات الوجود. ولكن أي معطيات هذه؟
بول تيليش، الفيليسوف الألماني الوجودي، ومؤلف أحد أهم الكتب في الفلسفة الوجودية “الشجاعة من أجل الوجود“، قام بتسمية هذه المعطيات بالهموم النهائية ultimate concerns، ليأتي يالوم ويحدد أربعة هموم ذات صلة كبيرة بالعلاج النفسي الوجودي: الموت والحرية والعزلة واللامعنى.
قد تبدو المقالة حتى اللحظة تحاول أن توصل القارئ إلى ربط غير مفهوم، أو إلى نقطة فلسفية مبهمة، لذلك وجب التنويه إلى أن المعنى قادم لا محالة (كلي أمل) في نهاية المقال هذا. فما الرابط بين عظمة الكتب، وسلطتها، والعلاج النفسي الوجودي، وتوماس؟
نرشح لك قراءة: الكتب الأكثر استدعاءً في الأعمال الفنية.. ما علاقة نجيب محفوظ؟
كونديرا والحرية والمسؤولية والإرادة
تعتلي الحرية قمة الهرم، وترتكز على ركيزتين مهمتين: المسؤولية والإرادة. الركض هربًا من المسؤولية، يعني مقارعة الكون بسلاح من ورق، والخوض في حياة خالية من المعنى، الكائن البشري هو المؤلف الأول لحياته وتفاصيلها (بحسب النظرة الوجودية)، فالإنسان “محكوم عليه بالحرية” يقول سارتر.
أما الإرادة، فبدورها تنقسم إلى قسمين: فعل الرغبة وفعل القرار. فالرغبة هي أن تعرف ما يجب عليك أن تفعل. وهنا، قد نتواجد في عديد من المواقف التي تضيق الخناق علينا لنختار بين رغبتين متباعدتين متنافرتين، يتوجب على الواقع في هذا المأزق التخلي عن أحد هاتين الرغبتين. أن تعاني من عجز في الرغبة هي مشكلة وجودية حقيقية، وعادة ما يتولد هذا العجز، من مشكلة أكبر: العجز عن الشعور.
عودة إلى التخلي والاختيار، فلو رغب شخص ما (ما رأيكم لو كان هذا الشخص هو توماس؟) بخوض قصة حب حقيقية (مع تيريزا) فلا بد من التخلي عن مجموعة (كبيرة كما نرى في الرواية) من الرغبات.
“القرار هو الجسر الواصل بين الرغبة والفعل”، لدى توماس رغبة (في العيش مع تيريزا)، ولكن هذا يعني التخلي عن نمط حياته المعين (الخفة)، والارتباط هنا لا بد أن يحمّل الشخص المسؤولية، والمسؤولية لا شك ثقيلة!
كلما وقعت عيني على السؤال الأهم في رواية كائن لا تحتمل خفته: “إذًا، ماذا ترانا نختار، الخفة أم الثقل؟” سألت نفسي كيف لنا أن نختار الثقل؟ خصوصًا أن كونديرا في الفقرة التي تسبق هذا السؤال المفصلي قد ترك طعمًا مرًا في فمنا إذ قال: “إن أكثر الأحمال ثقلًا يسحقنا، يلوينا تحت وطأته ويشدنا نحو الأرض… فكلما كان الحمل ثقيلًا، كانت حياتنا أقرب إلى الأرض، وكانت واقعية وحقيقية أكثر”، فكيف نختار الثقل في عالم الثنائيات هذا؟
كائن وجودي لا تحتمل خفته!
“كان متيقنًا من أنه كان يرغب في الموت إلى جوارها، وهذا الشعور كان مبالغ فيه إلى حد بعيد، فهو يراها للمرة الثانية في حياته”، كان توماس واعيًا بعزلته، كانت رغبته الإنسانية في أن يشارك شخصًا آخر عزلته في محاولة حقيقية لتخفيف الألم المترتب من هذا الشعور.
مرة أخرى يرمي كونديرا سؤالًا كالسهم في عقل القارئ: أيهما هو الأفضل، العيش مع تيريزا أم البقاء وحيدًا؟ هنا تولدت الرغبة من وعي توماس بالعزلة كأحد الهموم النهائية، ما سبق هذا السؤال: “لا يمكن للإنسان أبدًا أن يدرك ماذا عليه أن يفعل، لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة”.
يستطرد كونديرا، بعد سؤاله الوجودي هذا بأن يقول: “لا توجد وسيلة لنتحقق أي قرار هو الصحيح، لأنه لا سبيل لأي مقارنة… ردد توماس المثل الألماني القائل: مرة واحدة لا تحتسب، مرة واحدة هي أبدًا”.
لا أحاول أن أقع في المحظور، فأقع في حرق أحداث الرواية للسيدات والسادة من القراء ممن لم يقرأوا الرواية بعد، ولكن وجب علي هنا أن أخبركم بأن توماس اختار الثقل، اختاره في كل مرة كان بين احتمالين، هل يبقى في براغ أم يهاجر تاركًا كل شيء ويذهب إلى سويسرا ليبقى مع تيريزا؟ “امتثل توماس لرغبة تيريزا في الهجرة كما يمتثل متهم لحكم محكمة” المتهم عادة يقع عليه الحكم جراء موقف صنعته يداه، وبحسب المعطيات المتواجدة لدى رئيس المحكمة سينطق بالحكم.
مرة أخرى، أيعود إلى براغ مع رفيقة عزلته أم يبقى هناك؟ توماس أمسى منظف زجاج، بعد أن كان من أهم الأطباء في براغ، كل ذلك لأنه اتخذ قرارًا تلو القرار، ولكن عزيزي القارئ، لا أريد لجملتي الأخيرة أن تعطي طابعًا حزينًا بائسًا، ففي عقولنا، لا شك بأن الطبيب سعيد ومنظف الزجاج عكس ذلك.
تذكر أن الإرادة والمسؤولية هي صفات الحر. توماس -ربما- خسر الكثير ولكنه فاز بالحرية، فر من حياة خالية من المعنى. سأترك ما تبقى من الرواية ومفاتيحها لديك، في جعبتك، كي تسقط عليها ما تريد، كي تساعد نفسك في صناعة المعنى الخاص بك من خلال فعل القراءة العظيم.
نرشح لك قراءة: مجموعة من الكتب الرائعة التي تعتبر مدخلاً مهماً لفهم أديان العالم
القراءة تبجيل الكتاب
تخيل أيها القارئ العزيز، كيف حملتني أفكاري هذه في رحلة من كتاب علمي صرف، إلى أدب حلو المذاق والرائحة. لا يغيب عن ذهني وصف ألبرتو مانغويل العلاقة بين القارئ والكاتب (والكتاب بالضرورة) في كتابه “تاريخ القراءة” بأنها علاقة:
“بين خالق بدائي يهب الحياة في لحظة الموت وبين خالق بعد مماته، أو بالأحرى بين أجيال من الخالقين بعد مماتهم الذين يمكنون ما جرى خلقه من التكلم، والذين لولاهم لأصبح كل شيء مكتوب ميتًا. القراءة هي إذًا تبجيل الكتاب”.
نرشح لك قراءة: قوائم الكتب الأعلى مبيعًا: خدعة أم حلوى؟!
يحمل القارئ خبراته وحصيلة أدواته المعرفية إلى أي نص، لذا يختلف وضوح النص من قارئ إلى آخر، وبذلك يترتب على القارئ -بصفته واهبًا الحياة للنصوص- مسؤولية عظيمة بحق ذاته، تكمن في أن يقرأ أكثر، فيعرف أكثر، فيستمتع بالنصوص أكثر.
أخيرًا، هل وفيت بالوعد السابق وقمت بتوطيد الرابط بين عظمة الكتب وسلطتها والعلاج النفسي الوجودي وتوماس؟ أتمنى لو كان الوفاء بالوعد، هو ما كُتب في المقال هذا.
سلطة الكتب: تطبيق عملي مع كونديرا والعلاج النفسي الوجودي! بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
أراجيك
https://www.arageek.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق