قبل الإجابة على السؤال الذي يطرحه المقال، تخيّل معي أنّك وصديقك لوحدكما على متن قارب صغير تائهان وسط المحيط لا تجيدان السّباحة ولا تظهر في الأفق أيّة يابسة قريبة، أنت وهو فقط.. والمحيط.. دون غذاء ودون القدرة على طلب المساعدة، كم ستصمدان من دون طعام؟ وهل يمكن أن يدفعك الجوع إلى أكل صديقك؟
أتفق معك بأنّه سيناريو مروّع، مُقرف ومُبَالغ به، لكن، “غير ممكن”؟!!
إنّ كان السيناريو السابق قد أثار استهجانك، فإليك غيضٌ من فيضِ أحداثٍ حقيقيّةٍ حدثت في الماضي ووضعت الإنسان وجهاً لوجه أمام الجوع وأوقفته عارياً أعزلاً أمام غريزة البقاء.
العولمة والكورونا.. حربنا ضد الفيروسات بدون قائد! – تقرير
قصّة جماعة دونر
في ربيع سنة 1846 في الولايات المتحدة، انطلقت مجموعة من 90 مسافرٍ أمرdكيّ- عُرفوا لاحقاً باسم “جماعة دونر“- من مدينتهم سبرينغفيلد غرباً عبر طريق “مختصر” باتجاه كاليفورنيا، ولكنّ الطريق كان سيئاً وغير مناسب لعرباتهم أبداً. واجهتم الكثير من العقبات التي أدّت إلى تأخيرهم ليجدوا أنفسهم محاصرين في الثلوج الكثيفة لشتاء جبال سييرا نيفادا البعيدة عن وجهتهم وعن أيّ مكان مأهول قريب.
رغم أن المجموعة كانت قد تزوّدت بكل احتياجاتها من الغذاء وغيره قبل السّفر، إلّا أنّ هذه الاحتياجات بدأت تتناقص تدريجيّاً بفعل التأخير والحصار الذي وقعوا فيه، استهلكوا كل مخازنهم، ثم بدأوا بأكل كلابهم وحيواناتهم الأليفة، ثم أحصنتهم، وعندما نفذ كلّ شيء بدأوا بأكل جثث من لم يتحمّلوا ظروف البرد القارس والجوع، ولاحقاً اتُّهِم بعضُهم بالقتل العَمد للحصول على اللحم البشري للبقاء على قيد الحياة.
قصّة حصار لينينغراد
في أحداث شبيهة، تحديداً خلال الحرب العالميّة الثانية، وفي واحد من أسوأ الحصارات العسكريّة على الإطلاق؛ حاصر النّازيّون مدينة لينينغراد (سان بطرسبورغ ) حصاراً تامّاً لما يقارب 900 يوم! حوالي الثّلاث سنوات من الانقطاع الكامل عن العالم مع غطاءٍ ناريّ من القصف المتواصل. إلّا أن القصف لم يكون أسوأ ما واجهه السكّان وإنّما: الجوع!
قصف النّازيّون أحد أضخم مخازن الغذاء في المدينة، وبدأت تنفذ مدخرات النّاس تدريجيّاً. كانت الحصّة اليوميّة لكل فرد من المدينة قطعة خبز واحدة لا يتجاوز حجمها قطعة الصّابون، ولم تكن تكفي لإشباع الأعداد الهائلة من النّاس المحاصرين.لجأوا لقتل حيوانات حديقة حيوان المدينة، وبعدها الحيوانات الأليفة المنزليّة وثم الحيوانات المستخدمة للتنقّل. بعد أن انتهوا من لحوم تلك الحيوانات قاموا بغلي عظامها وجلودها وتناولوا حساءها، استهلكوا كل أشكال الأعشاب الموجودة في المدينة -الصّالح منها والضار، أذابوا المادّة اللاصقة لأوراق الجدران والكتب كونها مصنوعة من البطاطا، وحاول العلماء استخراج الفيتامينات من إبر الصّنوبر.
لم يفّوتوا وسيلة ممكنة إلّا ولجؤوا إليها ولكن الحصار بقي مستمرّاً، فماذا فعلوا من أجل البقاء؟ بدأوا بأكل جثث موتاهم، واتّجهوا تدريجيّاً للقتل في سبيل الحصول على قوتهم اليوميّ. تظهر الوثائق التي نشرت مؤخّراً أن شرطة المدينة أنشأت فرقًا كاملة لمحاربة القتل، ودخل السّجن حوالي 260 شخصاً بتهمة أكل اللحوم البشريّة.
أشارت التّقديرات اللاحقة بأن أكثر من مليون ونصف شخص لقوا حتفهم خلال سنوات الحصار الثّلاث، وهو رقم أكبر بـ 10 أضعاف من عدد ضحايا قصف هيروشيما، أكبر من مجموع الضحايا الأمريكيين في جميع الحروب الأمريكية مجتمعة، أكبر أيضاً من مجمل عدد المصابين بفيروس كورونا على امتداد العالم حتى اليوم!
أعتقد أنّك عرفت بالفعل جواب السؤال، فالجهاز المناعيّ البشري صارع عبر تاريخ الوجود الإنسانيّ آلافاً -إن لم يكن ملاييناً- من الفيروسات والعوامل الممرضة وتمكّن- سواء بمفرده أو بتدخّل من الإنسان- من القضاء على معظم تلك العوامل وتخطّى أزماته الصحيّة بفعاليّة كبيرة. أمّا الجوع، كيف يمكن أن تحارب البشريّة الجوع؟!
دوبامين الجهلاء: كيف يستخدم الدجّال الأمل لإقناعك بحاجتك إليه؟
ماذا يفعل الجوع بالجسم
تعرّف المجاعة “Starvation” بأنّها النقص الشديد والحاد في عدد السّعرات الحراريّة التي يحتاجها الجسم يوميّاً للحفاظ على حياته، هذا الجوع يمكن في حال استمراره أنّ يسبّبَ تلفاً دائماً في الأعضاء الأساسيّة في الجسم ويودي بحياة الفرد.
تغزو المجاعة الجسم على ثلاث مراحل أساسيّة، هذه المراحل هي طريقة الجسم في الحفاظ على نشاطه أطول فترة ممكنة ريثما يتوافر الغذاء من جديد.
خلال المرحلة الأولى يحاول الجسم الحفاظ على مستوى السكّر في الدّم من خلال إعادة تصنيعه من مخازن الجليكوجين التي تبقيه مستقرّاّ بضعة ساعات فقط، يلجأ بعدها لحرق الدّهون المخزّنة ليكون الجسم بذلك قد دخل في المرحلة الثّانية، ففي هذه المرحلة تكون الدّهون هي المصدر الأساسي للطّاقة وبعد نفاذها يبدأ الجسم تدريجيّاً باستخدام البروتينات وتكون مرحلة الخطر قد بدأت.
في المرحلة الثالثة يصبح الاعتماد الكليّ للجسم على البروتينات للحصول على الطّاقة اللازمة لاستمرار فعالية الأعضاء الأهم (كالدّماغ مثلاً)، لكن لسوء الحظ فإن هذه المخازن (التي تتواجد في العضلات بشكل أساسيّ) تنفذ بسرعة. عندها، لا يبقى أمام الجسم أي مصدرٍ طاقيٍّ ليبقى حيّاً، تبدأ الخلايا بالتدهور، ينخفض الوزن بشكل كبير وتبدأ أعراض جوع الدّماغ بالظّهور (الخمول، اللامبالاة، الانسحاب الاجتماعي) وتزداد خطورة الإصابة بالأمراض.
يموت معظم النّاس خلال المجاعات نتيجة الأمراض المتعلّقة بضعف الجهاز المناعي الذي- وكما قلنا- هو سلاح الإنسان الأقوى ضد الأمراض.
The Hunger Games..عندما تعاقب الحكومات شعوبها بالأمل!
السّؤال التالي والسيناريو التالي
لنتخيّل الآن أننا كبشريّة نقترب من الوصول إلى حافّة هاوية الأمن الغذائي وأنّنا فقدنا كلّ الموارد الغذائيّة المتاحة، استهلكنا حرفيّاً كلّ ما هو قابل للأكل، ماذا تتوقّع ستكون الخطوة التالية؟
إن كنت تعتقد أن هذا السّيناريو مُستَبعد، دعني أخبرك أن هذا غير صحيح! فالجوع أسرع ممّا نتخيّل؛
مع التنامي الكبير في تعداد سكّان الكوكب في العقود الأخيرة وانشغال العالم بالأزمات الاقتصاديّة، مشكلات المناخ والأوبئة، يتوقّع الخبراء أنّه وبحلول عام 2050 لن يكون هناك ما يكفي من الغذاء لإطعام كلّ سكّان الكوكب. وفقاً للتقرير الصّادر عن جمعيّة أوكسافام Oxfam أنّه بحلول منتصف القرن الحالي سيزداد عدد سكّان الكوكب حوالي 2 مليار شخص بينما ينخفض المردود الزّراعي إلى نصف ما كان عليه سنة 1990، يتوقّع التقرير أيضاً أنّه قبل ذلك (تحديداً عام 2030) سترتفع أسعار الذّرة والأرز بمقدار 180 و 130% على التّوالي، ولن يتمكّن الجميع من الحصول على أبسط الموارد الغذائيّة.
المجاعة بدأت بالفعل تفتك بالعديد البلدان حول العالم؛
فاليمن يقترب من أن يدخل التّاريخ كأسوأ مجاعة البشريّة حتّى الآن، حيث أن 14 مليون شخص (نصف سكّان البلد تقريباً) أصبحو معتمدين بشكل كلّي على المساعدات الإنسانيّة.
كما يموت في النّيجر، الصّومال، دول غرب افريقيا، ودول أمريكا الوسطى ملايين بسبب الجوع والجفاف، معظمهم من الأطفال والمراهقين، ويلجأ العديد منهم إلى الهرب عبر الحدود إلى الدّول الأخرى بحثاً عن حياة أفضل.
في الولايات المتحدة نفسها؛ عائلة من ضمن كل 8 عائلات تعاني من الجوع، وهو ما يقارب 12.3٪ من مجمل الأسر الأمريكية. كما يعاني ما يزيد عن 48% من الطلّاب الأمريكييّن (خاصّة ذوي البشرة الملوّنة) من انعدام الأمن الغذائي.
صمت عالميّ مطبق
هذا الاستخفاف العالميّ بأهميّة الأمن الغذائي والخطر الذي نواجهه يعود ربّما لعدم قدرة النّاس على تخيّل أن المجاعة يمكن أن تحدث أصلاً، كيف ذلك بعد كلّ التقدّم الذي نحن فيه؟! فالرفوف في سوبرماركت الحي مليئة بالمنتجات من كلّ أنحاء العالم، حتّى من تلك التي تفتك المجاعة بشعبها، كما أنّ حصيلة المجاعة حول العالم انخفضت بشكل ملحوظ منذ الثّمانينيات. أوشكنا بالفعل على الوصول إلى المرحلة التي يمكننا فيها القول بغياب مجتمعات تتضوّر جوعاً، كما كاد النمو الكبير في الأسواق العالميّة والقوّة التي بلغتها البنى التحتيّة للبرامج الإنسانيّة من القضاء تماماً على المجاعة، وهذا ما تخبرنا به الحكومات ووسائل الإعلام.
ولكنّ التبدّل البيئيّ الدراماتيكي الذي تفاقم في السنوات الأخيرة أسفر عن جفاف مساحات شاسعة من الأراضي الزّراعيّة، الحروب والنّزاعات الفتّاكة في مناطق عديدة من العالم، الحروب الاقتصاديّة النّاعمة بين القوى الكبرى في العالم لعبت دوراً محوريّاً في عودة الخطر من جديد.
السّيناريو الأخير والسؤال الأخير
استكمالاً للسيناريو الثاني وقبل أن نوشك على الفناء كجنس بشريّ، وجدنا طريقاً جديداً للحصول على الغذاء، غذاءٌ يكفي الجميع ويلغي الجوع على امتداد الكوكب. هل سيتم إعطاء الطّعام للجميع أمّ أنّ الدّول الأقوى اقتصاديّاً ستشتري كلّ الطّعام لتغذّي به شعوبها، تبيعه لشركائها و”تتصدّق” ببقاياها على الدّول الأقل حظاً؟ هل من مصلحة النّظام العالميّ أساساً أن ينام الجميع شبعاناً؟
وأخيراً، كيف تحد هذه الدول من تزايد السكّان “الشّبعانين” الصّحيحين وغير المنتجين على أراضيها؟ بالأوبئة؟!!!
هل يتطلّب الأمن القومي أن تخفي الحكومات الكوارث عن شعوبها؟ تشيرنوبل ليست النموذج الوحيد!
الفيروسات ليست أكبرَ تهديد للإنسان، وإنّما.. بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
أراجيك
https://www.arageek.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق