لنعد في الزمن إلى الفترة الممتدة ما بين 12000- 15000 عامٍ مضى. وهي الفترة التي حصل فيها أحد أكثر التغيرات تأثيرًا على حياة الجنس البشري، ويمكننا القول أن الإنسان قبلها ليس كما بعدها. فماذا حصل بالتحديد؟
المحطات الكبرى في رحلة الجنس البشري
هل وقعنا في الفخ؟
في نهاية العصر الجليدي البليستوسيني الأخير منذ 11,700 عام مضى، حصل تحسن في درجات الحرارة، وذابت الأنهار الجليدية، وارتفعت مستويات مياه البحار، وأعيد تنظيم النظم البيئية في جميع أنحاء العالم. وفي هذه الفترة من التاريخ، ظهرت عمليات الزراعة الأولى. ومن الخطأ أن نظنّ أنّ الزراعة قد نشأت في منطقةٍ واحدةٍ فقط ثم انتقلت منها إلى باقي مناطق العالم، وإنما ما حصل هو تدجين مجموعة متنوعة من النباتات والحيوانات بشكلٍ مستقل عن بعضها البعض، في بعض الأماكن المختلفة من العالم وفي أوقات مختلفة، ثم انتقلت لاحقًا بين الشعوب.
قبل نشوء الزراعة، كان كل المنتمين إلى الإنسان العاقل عبارة عن صيادين جامعين، أي يحصلون على الغذاء من الصيد وجمع الثمار والتقاطها. ومع ذلك، فإنّ إدارة الحيوانات والنباتات لم تكن أمرًا غريبًا على ثقافة مجتمع الصيادين الجامعين؛ حيث استطاعوا تدجين الكلاب واستخدامها في الصيد، والحصول على اللحوم والحليب من الأغنام والماعز والماشية عن طريق معرفة أماكن رعيها، وحمايتها نوعًا ما من الحيوانات المفترسة، ومعرفة مواسم نضج المحاصيل والأشجار المثمرة، وغيرها من الأمور. لكن إدارة هذه الموارد قد اتخذت أبعادًا جديدة عندما سبب الانتخاب الطبيعي وبعض الطفرات حدوث طُرز ظاهرية اعتمدت بشكل متزايد على البشر.
والجدير بالذكر أنّ الزراعة لم تكن استجابة لندرة الطعام أو العوز، بل يبدو أن العكس هو الصحيح. بمعنى أن زيادة عدد السكان ليست الدافع في نشوء الزراعة، وإنما ارتفع عدد السكان بشكل كبير فقط بعد أن نجح البشر في إنتاج الغذاء.
البدايات الأولى في الزراعة
استطاع العلماء تحديد أحد أقدم التحولات من حياة الصيد والالتقاط إلى الزراعة، عن طريق تتبع التغيرات الشكلية التي حصلت على النباتات والحيوانات المُدجّنة، وهو يعود إلى الفترة الممتدة ما بين 14500 و12000 عام مضى، في جنوب غرب آسيا. وتحديدًا عند الشعوب التي عاشت في بلاد الشام والتي صنعت المناجل الحجرية، وجمعت العديد من النباتات بشكل مكثف، كالشعير البري.
ثم بدأ أشخاص من قاطني المناطق الشرقية من الهلال الخصيب بتطوير أشكالٍ مستأنسة من بعض النباتات التي تنمو في هذه المنطقة، وذلك قبل 12000-11000 عام. ثم تبعها أولى عمليات استئناس الحيوانات قبل 10000 عام. ولاحقًا تمّ في شرق آسيا تدجين نبات الدُخن (الذُرة البيضاء) والرز وذلك قبل حوالي 8500- 8000 عام. أما في الأمريكيتين، فقد كان نبات القرع موجودًا على شكل مُدجّن في جنوب المكسيك وشمال البيرو وذلك قبل 10000- 9000 عام. والخلاصة كما ذكرنا أنّ تدجين النبات والحيوان قد حصل في أماكن مختلفة من العالم، وبشكلٍ مستقل عن بعضها الآخر. 1
تأثير الثورة الزراعية على تطور الجنس البشري
بعد تطوير الأدوات الأولى، فإنّ تطوير الزراعة هو الابتكار الثقافي الأكثر عمقًا. فقد سببت الزراعة استقرار البشر في أماكن محددة، وزيادة أعدادهم بشكل كبير جدًّا. لكن، دعونا ننظر من زاويةٍ أُخرى، فالبشر عاشوا معظم فترة وجودهم، وحتى لو حسبنا فقط زمن وجود البشر الحديثين (قبل 200,000 عام) على الموارد التي تحدث طبيعيًا. لذا فإنّ تطوير الزراعة والذي حدث مؤخرًا مقارنة بزمن وجودنا، يعتبر تغييرًا ثوريًا حقًا، وبغض النظر عن الآليات التي أنجزت هذا التغيير إلّا أنّ العواقب كانت كثيرة ومتنوعة. إذًا، دعونا نستعرض أهم النتائج التي خلّفتها الزراعة على صحة الإنسان العاقل، وعلى المجموعة البشرية ككل، ثمّ يمكنك أن تحكم بنفسك عزيزي القارئ إن كنا قد وقعنا في الفخ أم لا!
تأثير الزراعة على مستوى الفرد
أدّى تطوّر الزراعة إلى مجموعة من التغييرات الجذرية في النظام الغذائي؛ فقد اعتاد الصياديون الجامعون سابقًا على اتباع نظام غذائي متنوع من أجل الحصول على الاحتياجات الغذائية اليومية. بينما نجد أنّ المزارعين اعتمدوا على مجموعة ضيقة نسبيًا من الأنواع النباتية والحيوانية، والتي قد تكملها بعض الموارد الغذائية البرية المحيطة بأماكن الزراعة. لذا فإن الاعتماد على هذا النظام الغذائي المحدود والذي قد لا يلبي الاحتياجات الغذائية، أدى إلى سوء التغذية، وزيادة في تسوس الأسنان، وزيادة انتشار الأمراض (نتيجة العيش في مستوطنات أكبر)، بالإضافة إلى مشاكل أخرى ناتجة عن الاعتماد على الأطعمة التي لا يسهل هضمها كمنتجات الألبان والقمح.
على سبيل المثال، إنّ استهلاك الحليب أو منتجات الألبان ليس طبيعيًا بالنسبة للثدييّات البالغة، فالقدرة على هضم اللاكتوز (سكر الحليب) توجد فقط عند الثدييات الرضع، لكنها عادةً ما تُفقَد بمجرد فطامها. وعندما قام الإنسان بتدجين عدد كبير من الثدييات كالماعز والأغنام والأبقار، قام بالاعتماد على حليبها كمصدرٍ جديد للغذاء. لكن، وبما أنّ الصيادين الجامعين قد عاشوا عشرات الآلاف من السنين سابقًا دون أن يعتمدوا على الحليب كمصدر أساسي ونموذجي للغذاء، لذا فقد عانى البالغون من المزارعين الأوائل من مشكلة عدم تحمل اللاكتوز، وذلك على نطاق واسع. ولم تبدأ الجينات التي تسمح للبالغين بهضم اللاكتوز بالظهور إلا منذ حوالي 4000 عام فقط. وربما هذا هو السبب الذي جعل القدماء يعتمدون على التعديلات التصنيعية في الحليب وإنتاج الأجبان والتي تحتوي على نسبة أقل من اللاكتوز.
بالإضافة إلى ذلك، فقد ظهر جين آخر يعزز القدرة على امتصاص بعض الأحماض الأمينية المهمة، والموجودة بكميات قليلة في القمح والحبوب المستأنسة الأخرى. ويمثل انتشار هذا الجين ميزة واضحة في الأنظمة الغذائية التي تعتمد على الحبوب كمصدر للغذاء. لكن، وعلى الرغم من الفائدة التي يحققها، إلا أنه يزيد من خطر الإصابة ببعض الاضطرابات الهضمية، مثل متلازمة القولون العصبي. هكذا هو الوضع بالنسبة للتكيفات التطورية، فهي غالبًا ما تخلق توازنًا ديناميكيًا بين التأثيرات الإيجابية والسلبية.
ليس فقط نمط الغذاء المتغير ما أثّر على صحة أجدادنا، وإنما أيضًا نمط الحياة المختلف. حيث وجد العلماء أنّ المزارعين في الآونة الأخيرة امتلكوا عظامًا أخف وأضعف بشكل ملحوظ، وأكثر عرضة للكسر. فكتلة عظامهم كانت أقل بنسبة 20% من الكتلة العظمية لأسلافهم. ففي حين كانت الكثافة العظمية المرتفعة موجودة طوال فترة التطور البشري، اختلف الوضع حين تطورت الزراعة. وقد نتج هذا التأثير عن التغيرات في نمط النشاط البدني بشكل أساسي، وذلك نتيجة الانتقال من حياة التنقل والحركة المتكررة بحثًا عن الطعام إلى الحياة المستقرة نسبيًا للمزارعين. تعتبر هذه الدراسات مهمة في فهم السياق التطوري لأمراض هشاشة العظام، وأمراض العظام عند المسنين بالنسبة للبشر المعاصرين.2
هناك أمر آخر، أمر لازلنا ندفع ثمنه باهظًا، ألا وهو الأمراض. فالعديد من الأمراض البشرية المُعدية هي أمراض جديدة نشأت بعد تطوّر الزراعة. والسبب أولًا هو سهولة انتشار العدوى في التجمعات البشرية الكبيرة. ثانيًا، نتيجة انتقال العديد من الأمراض من الحيوانات المُدجَّنة إلى البشر؛ فمعظم الأمراض المُعدية الرئيسية البشرية لها أصول حيوانية، سواءً حيوانات برية أو أليفة. لذا فكلما زاد احتكاك البشر مع الحيوانات، كلما زادت فرصة انتقال الأمراض بينهم. 3
تأثير الزراعة على مستوى المجموعة
بدأ البشر بعد الزراعة بالعيش في مستوطنات أخذت تكبر شيئًا فشيئًا، حيث سمحت الأغذية الفائضة التي تولدها النظم الغذائية للناس أن يعيشوا في قرى زراعية أكبر وأكثر ديمومة. هذا الفائض من الغذاء لم يذهب إلى أُسَر المزارعين، وإنما وُزِّع على باقي أفراد المجتمع. وقد نتج عن هذا التغيّر في النظم الاجتماعية تأثير كبير على البشر، فقد أصبح التخصص ممكنًا ضمن المجتمع، وذلك بما أنه لم يعد من الضروري أن يُكرس الجميع وقته للزراعة. لم تكن هذه القُرى أكثر إنتاجية زراعيًا فقط وإنما إبداعيًا أيضًا، فقد أنتج الناس المنسوجات والفخار والأدوات والمنحوتات والرسم والأعمال المعدنية وغيرها.
أما التأثير الأكبر لهذا النظام الاجتماعي كان تطوّر فكرة الملكية؛ فالمزارعون استثمروا قدرًا كبيرًا من وقتهم وطاقتهم في زراعة مناطق محددة من الأرض، لذا فقد تعلّقوا بها. وهذا بالطبع قد أدى لخلق النزاعات على الملكيات، وكنتيجة لذلك، فقد نشأت أنظمةٌ لضبط السلوك وظهر القادة.
كما أدت عمليات الزراعة المكثفة إلى زيادة عدد البشر بشكل كبير، ففي الفترة الممتدة ما بين 10,000 عام إلى 1000 عام قبل الميلاد، ازداد عدد سكان العالم من 6 مليون إلى حوالي 120 مليون إنسان، بالتالي احتاجت المجتمعات إلى التغيير بطرقٍ غير مسبوقة لتصبح أكثر تعقيدًا في كيفية تنظيم الحياة البشرية.
زاد إذًا تعقيد المجتمعات الزراعية مع الوقت، وبالطبع فإنّ المحافظة عليها لم يكن من الأمور السهلة، بل تطلبت تلاعبًا ومعالجةً كبيرة في البيئة المحيطة، وغالبًا بطرقٍ لا رجعة فيها، وذلك من أجل استخراج الطاقة على شكل حطب، ومواد البناء كالحجر، والموارد كالغذاء والماء. وبالنتيجة، فقد غدت هذه المجتمعات حساسة جدًّا لتقلبات الطقس، حيث يمكن للفيضان أن يقضي على إمدادات القمح بأكملها، ويمكن للجفاف أن يجعل إمدادات الماء شحيحة بشكل خطير، ولأنّ هذه المجتمعات كانت مكتظة بالسكان، فقد انتشرت الأمراض والصراعات والعوز بشكل أكثر دراماتيكية.
لكن، وكاستجابة لنقاط الضعف هذه، فقد طورت المجتمعات بعض الطرق كخطوات استباقية للتغيرات البيئية الطبيعية، كتخزين الطعام والمياه. وكلما زاد تعقيد المجتمعات، كلما واجهت تحديات أكبر، واحتاجت إلى تطوير آليات للتنظيم الاجتماعي وذلك لمعالجة العقبات بشكل أكثر فعالية.
وصلنا الآن إلى تشكيل ما يُعرف بالحضارات المعقدة، كما في بلاد الرافدين، النيل، السند، ومناطق أنهار هوانغ Huang. تشترك هذه الحضارات بمجموعة من الميزات، فبالإضافة إلى تمتعها ببنية تحتية قوية كالجدران الحجرية والهياكل والأبنية، فقد تمتعت ببنى تحتية اجتماعية، كالمؤسسات الاقتصادية والسياسية والدينية والتي خلقت طبقات اجتماعبة هرمية جديدة. هذا يعني وجود أشخاص يقومون بأدوار متخصصة جدّا، أي مزارعين وتجار وحرفيين وإداريين محترفين وقادة روحيين وغيرهم، كما أن زيادة التجارة والصراع مع الحضارات الخارجية قد تطلب وجود دبلوماسيين وجيوش وحكام مركزيين. إذًا، مع مرور الزمن، أدت الزراعة إلى نشوء القرى الزراعية، ثم الحضارات والمدن الأولى، ثم الدول.
لكن، وعلى الرغم من أنّ الثورة الزراعية كان لها دور كبير في تنمية المجتمعات المعقدة، إلّا أنّ هناك جدلٌ كبير حول سبب تطوّر بعض المجتمعات الزراعية إلى حضارات متقدمة، في حين لم يفعل بعضها الآخر. في الحقيقة، يبدو في بعض الحالات أنّ الأنظمة السياسية المعقدة كانت هي السبب في تطوير النظم الزراعية وليس نتيجةً لها. ولا يزال المؤرخون وعلماء الإنثربولوجيا يحاولون فهم دور بعض المتغيرات الأُخرى كمشاريع الري واسعة النطاق، والحروب، والتجارة، والجغرافية، والمنافسة. إذًا، دعونا نقول أنّ كل مجتمع قد نما بشكل مختلف وأكثر تعقيدًا وذلك استجابةً لمجموعة خاصة من المؤثرات البيئية والاجتماعية والسياسية. 4
بعد كل ما سبق، هل تظن أنّ نمط الحياة الزراعي قد زاد من تعاسة البشر؟ لا نستطيع أن ننكر أنّ الإنسان أصبح عبدًا لمزروعاته وحيواناته وهذا النمط من الحياة الذي اختاره، فهو لا يحصل مقابل الجهد والوقت الذي يبذله سوى على القليل من الدخل نوعًا ما. وبالطبع قد سبب نمط الحياة الزراعي بعض المشاكل الفيزيولوجية المرتبطة بنوع الغذاء، بالإضافة إلى التقسيم الطبقي، وصعود النخبة والأغنياء على أكتاف المزراعين والفقراء. لكن، دعونا لا ننسى أنها نواة الحضارة، وكل ما نحن فيه اليوم قد انطلق بدايةً من تلك الحقول والبيوت الصغيرة البدائية المتجمعة حولها. وإن كنتم تظنون أنّ لها تأثيرًا سلبيًا، فلنرى إذًا الثورة الصناعية، إحدى أهم المحطات في الرحلة وأكثرها دُخانًا!
من الشمس إلى باطن الأرض
ماذا حصل بعد الزراعة؟ يمكننا القول أنّ وجه الحضارة قد تغير عندما تغيرت مصادر الطاقة. كيف؟
سابقًا في المجتمعات الزراعية وحتى فترةٍ قريبة نوعًا ما، كان البشر يحصلون على معظم الطاقة اللازمة من الحيوانات والنباتات التي يأكلونها، والطاقة الناتجة عن الخشب الذي يحرقونه، والطاقة الناتجة عن تشغيل حيواناتهم الداجنة. وعلى الرغم من أنّ طواحين الهواء وعجلات المياه قد زودتنا ببعض الطاقة الإضافية، إلّا أنّ الطاقة الاحتياطية كانت قليلة. إذًا، كانت كل العمليات الحياتية البشرية تقريبًا تُدار اعتمادًا على الطاقة المتدفقة من الشمس إلى كوكب الأرض.
لكن، تغيّر كل شيء بحلول عام 1750؛ وذلك عندما اكتشف البشر مصدرًا إضافيًّا للطاقة يتمتع بقدرة هائلة على التشغيل. هذا المصدر الجديد هو الوقود الأحفوري، والذي يشمل الفحم والنفط والغاز الطبيعي. هذه المواد تشكلت من بقايا النباتات والحيوانات من العصور الجيولوجية القديمة والمدفونة في باطن الأرض، والتي تعطي عند حرقها كمية كبيرة من الطاقة المستمدة من الشمس أساسًا والمخزنة فيها لمئات الملايين من السنين. ويمكن القول أنّ استخدام الفحم كمصدر للطاقة كان الشرارة الأولى لاندلاع الثورة الصناعية.
أين وكيف بدأت الثورة الصناعية
بدأت الثورة الصناعية في الجزيرة الصغيرة لبريطانيا العظمى في مطلع القرن الثامن عشر. فبعد أن قام السكان بقطع معظم أشجارهم واستخدامها في بناء البيوت والسفن والتدفئة والطبخ، بدأوا بالبحث عن شيءٍ آخر ليحرقوه، وبطريقةٍ أو بأُخرى قاموا بحرق كتل الحجر السود (الفحم) والتي وجدوها بالقرب من سطح الأرض، وسرعان ما عمدوا للحفر بشكل أعمق لاستخراجها. لكن مناجم الفحم هذه كانت مليئةً بالماء والتي احتاجت شيئًا آخر غير الخيول البطيئة للتخلص منها، ليأتي دور “جيمس وات” والذي قام بتصميم آلة تقوم بحرق الفحم وإطلاق البخار، واستخدمها في ضخ الماء من مناجم الفحم بشكل أسرع وأكثر كفاءة من الخيول. وهو ما سُمِّي لاحقًا بالمحركات البخارية، وعلى الرغم من أنّ هذه المحركات كانت قد اُستخدِمت قبل ذلك في الصين وبريطانيا وتركيا، إلّا أنّ آلة “وات” كانت أفضل وأكثر كفاءة. ولاحقًا، أُدخِلت التحسينات العديدة على عمل محركها ثم تطورت عبر الزمن.
وبحلول أوائل القرن التاسع عشر، كان البريطانيون قد اخترعوا القاطرات والسفن البخارية والتلغراف وآلات الخياطة والمسدسات وآلات الحصاد وغيرها الكثير من الآلات البخارية. وعلى الرغم من أنّ بريطانيا حاولت جاهدةً الحفاظ على السرية في كيفية تصنيع آلاتها، إلا أنّ الناس الذين قدموا إليها استطاعوا بناء هذه التقنيات عندما عادوا إلى أوطانهم، وفي بعض الأحيان لجأوا إلى تهريب الآلات في قوارب تجديف إلى البلدان المجاورة. ثم بدأت لاحقًا عمليات التصنيع والصناعات الآلية بالازدياد والانتشار في مختلف دول العالم.
وبالطبع سوف نتحدث عما حققته الثورة الصناعية للبشر وكيف أثرت على حياتهم، لكن دعونا لا ننسى ذكر أحد أسوأ تأثيراتها ألا وهو ظهور الإمبريالية. فالإمبريالية هي النهج الذي اتبعته الدول الصناعية لاستعمار الدول غير الصناعية، باستخدام الجيوش والقوات المختلفة وغيرها من الطرق، من أجل الحصول على الموارد الخام الموجودة فيها واستخدامها في التصنيع (وهو ما زال مستمرًا حتى اليوم بشكلٍ أو بآخر). وإن أردنا العودة بالذاكرة إلى عام 1914، سنجد أنّ الأوربيين كانوا قد احتلوا 84% من مساحة اليابسة في العالم، وقد قادت بريطانيا وحدها عمليات الاستحواذ هذه، وأنهت القرن التاسع عشر بأكبر إمبراطورية غير متجاورة عرفها العالم على الإطلاق. لكن بالطبع لا شيء يدوم، فالآن، في أوائل القرن الحادي والعشرين، برزت الصين والهند والبرازيل كقوى اقتصادية كبرى، في حين تعاني العديد من الدول الأوروبية من اضطرابات اقتصادية.5
كيف أثرت الثورة الصناعية على حياة البشر
إذًا فالثورة الصناعية هي تحوّل الاقتصادات الزراعية والحِرَف اليدوية إلى الاقتصادات التي تعتمد على التصنيع والصناعات الآلية. هذا التحوّل الاقتصادي لم يغيّر فقط كيفية إنجاز العمل وإنتاج السلع، وإنما غيّر أيضًا كيفية ارتباط البشر بعضهم ببعض من جهة، ومن جهة أُخرى علاقتهم مع الكوكب بشكل عام. ولا تزال الثورة الصناعية حتى اليوم تحدث تغييرًا مستمرًا في النظم الاجتماعية، بالإضافة إلى العديد من التأثيرات التي امتدت عبر المجالات السياسية والبيئية والثقافية.
بالطبع غيرت الثورة الصناعية نوعية الحياة بالنسبة للأفراد وغيرت وضعهم من منتجين إلى مستهلكين، وزادت مقتنيات الناس بشكل كبير جدًّا، ليس فقط بالنسبة للعناصر الضرورية للحياة، بل أيضًا عناصر وأجهزة الرفاهية. فقد استطاعت المصانع والآلات التصنيعية إنتاج السلع بشكل أسرع وأرخص مقارنة بالإنتاج اليدوي، فأصبحت الملابس والأحذية والسلع المنزلية وكل العناصر الأُخرى التي تحسن من نوعية حياة الأشخاص أكثر شيوعًا وأقل تكلفة. مما سمح لهم أيضًا ببناء الثروات الشخصية الخاصة وتوفير المال لشراء الكثير من الأشياء الأُخرى.
بالإضافة إلى نشوء فرص عمل جديدة نتيجة بناء المزيد من المصانع، واختراع الآلات التصنيعية الجديدة، ونشوء الشركات المختلفة والوظائف المكتبية وغيرها. فلم يعد الشخص العادي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأرض كما كان في زمن الثورة الزراعية، بل قلل التصنيع من اعتماده على ملكية الأراضي كمصدر رئيسي للدخل.
كما تمّ إنشاء الأسواق الخارجية لتصريف السلع المختلفة، مما زاد من ثروة الشركات المنتِجة، وأضاف عوائد الضرائب إلى خزائن الحكومة. وازدادت الآلات الموّفرة للعمالة، خاصة تلك التي تعمل بالكهرباء (كالآلات التصنيعية المختلفة والأجهزة المنزلية والتبريد)، والأجهزة التي تعمل بالوقود الأحفوري كوسائل النقل والمواصلات، وغيرها من البنى التحتية المختلفة كالسكك الحديدية، وخطوط الهاتف، والألياف الضوئية، وغيرها.
ومع نمو المصانع ازداد تخصص العمل، واحتاج العمال المتزايدون إلى المزيد من الخدمات كالسكن والنقل والترفيه وغيرها، لذا فقد توسعت البلدات والمدن، ونمت البيروقراطيات الحكومية لتأمين ودعم كل ذلك، وتمّ إنشاء إدارات متخصصة جديدة للتعامل وتنظيم المرور والصرف الصحي والضرائب والخدمات الأُخرى. كما تطورت المهن الأُخرى داخل المدن وزاد تخصصها، حيث زاد عدد الأطباء والمحامين والمعلمين والبنائين وغيرهم من العمال، وكل ذلك للتعامل مع الاحتياجات المختلفة للسكان الجدد.
ثلاث روايات حول نجاة الجنس البشري من الكوارث، اقرأها بتمعن!
ماذا عن سلبيات الحياة في ظل الثورة الصناعية
أدت الهجرة إلى المدن بغية العمل إلى زيادة أعداد السكان بشكل كبير جدًّا، والذين سكنوا بدايةً في المساكن والأكواخ الضيقة ذات الجودة الرديئة المصنوعة من الصفيح. وقد سبب هذا التدفق المفاجئ للناس غمر شبكات المجارير والصرف الصحي، وتلوث المياه في كثير من الأحيان. وبالنتيجة، فقد أدى هذا الاكتظاظ مع الظروف الحياتية السيئة إلى تفشي العديد من الأمراض المعدية كالتيفوس والجدري والكوليرا والسل وغيرها. لكن بالمقابل حفزت هذه الأمراض حصول التقدم على العديد من الأصعدة مثل التقدم الطبي، كما كان النقص في المنازل حافزًا لازدهار العمران وتطوير المباني الطابقية الحديثة، وتطوير القوانين الصحية والبناء، وتقدم التخطيط المدني في العديد من المدن الصناعية.
أما من ناحية العمل، فعلى الرغم من أنّ أجور العمال ودخلهم كانا أكبر من العمال الزراعيين، إلا أنّ ذلك كان على حساب الوقت، وظروف العمل الأقل مثالية. فالانتقال من الأعمال الحقلية في الهواء الطلق والتي احتاجت للكثير من الجهد العضلي إلى العمل المستقر في المكاتب الإسمنتية المغلقة، أدى إلى تردي الواقع الصحي للعمال وعائلاتهم نتيجة قلة الأفعال الحركية التي يجب أن يقوموا بها للمحافظة على صحتهم. كما أنّ انتشار وسائل الترفيه السلبي كالبرامج التلفزيونية والإذاعية وغيرها، قللت من الاحتكاك مع الطبيعة وسيطرت على وقت الفراغ. بالإضافة إلى اختلاف العادات الغذائية وسيطرة العادات السيئة، كانتشار الأغذية المعالجة والمعدة مسبقًا، وهذا بالطبع قلل من وقت الطبخ وقلل من تناول الأغذية الصحية. وقد سبب هذا النمط من الحياة زيادة الأمراض المرتبطة به مثل أمراض القلب والسكري والسُمنة وبعض أنواع السرطان والكآبة وغيرها.
ماذا عن الكوكب؟
استنفذت عمليات التصنيع والإنتاج الموارد الطبيعية بشكل كبير جدًّا سواء الماء أو الأشجار أو التربة أو الصخور أو المعادن وحتى الحيوانات البرية والداجنة. ليس هذا فقط، بل نشأت تحديات بيئية جديدة، فالتلوث الكبير في الهواء والماء، وانخفاض التنوع البيولوجي، وتدمير موائل الحياة البرية، وخطر الاحتباس الحراري قد نشأت جميعها انطلاقًا من هذه المرحلة من التاريخ البشري. وكلما زاد عدد البلدان الصناعية الساعية لتحقيق ثروتها وازدياد عدد سكان الأرض وكفاحهم من أجل تحقيق الأرباح المادية التي وعدت بها الثورة الصناعية، كلما ازداد استنزاف موارد الكوكب، وازداد التدهور البيئي.6
المحطة الأخيرة في تطور الجنس البشري
بدأت المرحلة الأخيرة من رحلتنا في الثمانينيات، وفيها قفزت التكنولوجيا من الآلات الميكانيكية والأنظمة الإلكترونية التناظرية إلى التكنولوجيا الرقمية المتاحة اليوم. ويصح أن ندعوها بالثورة الرقمية وبداية عصر المعلومات، وهي بالطبع وليدة الثورة الصناعية.7
تطورت الثورة الرقمية بسرعة كبيرة جدًّا، فلم يستطع أي اختراع تكنولوجي سابقًا أن يصل إلى هذا العدد الهائل من الناس وخلال مدة قصيرة من الزمن كما فعل الإنترنت. ولن نتكلم كثيرًا عن إنجازاتها وتأثيراتها، فأنتم ترونها بأم أعينكم. ولا بدّ من أنكم تلمسون أو تسمعون على الأقل بالتطور التكنولوجي الذي يطال جميع أصعدة الحياة، سواء في المجالات العلمية أو الحكومية أو الطبية أو التقنية أو التصنيعية وغيرها.
ومع ذلك، فإن التقنيات الوليدة من رحم هذه الثورة لا تزال تثير بعض المخاوف، كالذكاء الاصطناعي. وعلى سبيل المثال، هناك السيارات ذاتية القيادة والتي أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من اكتمال ونضج صناعتها، ومع ذلك فإنّ استعداد الناس لركوبها لا يزال منخفضًا. ومن ناحيةٍ أُخرى، يزداد القلق حول تأثير الذكاء الاصطناعي على وظائف الناس، على الرغم من أقوال الاقتصاديين بأن فقدان هذه الوظائف لن يحصل تمامًا، وإنما ستتكيّف مع التغيير التكنولوجي. وأخيرًا دعونا نذكر أيضًا المخاوف التي تثار بين الحين والآخر بشأن تأثيرات الهواتف الذكية وألعاب الفيديو ومواقع التواصل الاجتماعي على صحتنا العقلية، والتي لم تحسم نتائجها بعد.8
هذه الثورة لم تنتهِ بعد، وإلى أين ستؤول بنا، لا نعلم. لكن، دعونا نتخيل بعض السيناريوهات المستقبلية.
تعرف على قوانين القوة التدميرية للغباء البشري
ماذا عن المستقبل؟
كما قلنا سابقًا، فإنّ تغير مصادر الطاقة يغيّر وجه الحضارة، ومع استمرار نمو الحضارة البشرية وتحقيقها للمزيد من التقدّم التكنولوجي، ومع النمو السكاني المتزايد ومتطلبات الآلات المتزايدة، سنحتاج إلى المزيد والمزيد من الطاقة. فمن أين؟
قبل الحديث عن مصادر الطاقة، لا بدّ أن نسأل، هل سمعتم بمقياس كارداشيف؟ هو مقياس وضعه العالم الفلكي الروسي نيكولاي كارداشيف كوسيلة لقياس التقدم التكنولوجي لحضارة ما بناءً على مقدار الطاقة التي يمكن لتلك الحضارة استثمارها، وعليه فقد قسم الحضارات إلى ثلاثة أنواع:
- الأول I: هي الحضارة التي تستطيع تسخير كل الطاقة المتاحة من نجم مجاور، وجمعها وتخزينها لتلبية متطلبات السكان المتزايدين.
- الثاني II: هي الحضارة التي تستطيع تسخير قوة نجمها بالكامل، ليس فقط تحويل ضوء النجم إلى طاقة، وإنما التحكم بالنجم ذاته. لتوضيح الفكرة سنذكر الأداة أو يمكن وصفه بالجهاز إن صحّ التعبير “Dyson Sphere” الافتراضي، والذي سيقوم بتطويق كل شبر من النجم ليجمع معظم (إن لم يكن كل) نواتج طاقة هذا النجم، ثم ينقلها إلى الكوكب الأم لاستخدامها لاحقًا.
- النوع الثالث III: وهي الحضارة التي تستطيع تسخير الطاقة المكافئة لتلك الموجودة في مجرتها.
لكن أين نحن من هذا المقياس؟ في الواقع، لا زلنا خارج التصنيف. فنحن لا زلنا نحصل على معظم طاقتنا من بقايا الحيوانات والنباتات الميتة! لذا وبعد كل ما حققناه وما مررنا به على مدى ملايين السنين السابقة، ابتداءً بالمشي منتصبين، ثم حمل المشاعل والهجرة خارج إفريقيا، مرورًا بتطوير القدرات الفريدة كاللغة والدين، ثم تغيير نمط حياتنا من الصيد والالتقاط إلى الزراعة إلى الصناعة والتكنولوجيا وغيرها الكثير من الإنجازات والأحداث، كلّ ذلك ولا زلنا حضارة متواضعة من النوع (0). سنحتاج من 100 إلى 200 سنةً أُخرى لننتقل إلى النوع الأول. هذا يعني أننا سنحتاج إلى تعزيز إنتاجنا من الطاقة أكثر من 100,000 مرة للوصول إلى هذا النوع. بل لنقل أنّه قبل أن نتمكن من تسخير كل طاقة شمسنا، علينا أن نسخّر كل طاقة الأرض، فهل لنا أن نسيطر على البراكين أو الزلازل أو الطقس9
ربما السؤال المنطقي ليس إن كنا سنستطيع كحضارة بشرية أن تفعل كلّ ذلك، وإنما السؤال هو: هل سنتمكن مع كل هذه الحروب والمجاعات ونقص الموارد والأوبئة من النجاة لألف عامٍ قادمة؟ أو هل سيتمكن كوكبنا العزيز بعد كل آلامه التي سببناها أن ينجو؟
المحطات الكبرى في رحلة الجنس البشري من الثورة الزراعية نحو المستقبل بواسطة أراجيك - نثري المحتوى العربي
أراجيك
https://www.arageek.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق